التسيير والتقنيات الحضرية


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

التسيير والتقنيات الحضرية
التسيير والتقنيات الحضرية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تجربة النمط العمراني المستحدث في البيئة العمرانية العربية الإسلامية

اذهب الى الأسفل

تجربة النمط العمراني المستحدث  في البيئة العمرانية العربية الإسلامية  Empty تجربة النمط العمراني المستحدث في البيئة العمرانية العربية الإسلامية

مُساهمة من طرف Admin الأربعاء ديسمبر 14, 2011 8:04 pm

مقدمة :
في مجال دراسة البيئات العمرانية ، تحتل هواجس الهوية الحضارية والاجتماعية ومدى ملاءمة هذه البيئات العمرانية لقاطنيها اهتماماً كبيراً من قبل الباحثين . كما تعتبر الهويّة وبصفة عامة ، من أساسيات الوجود الإنساني والتي تعبر عن خصائص ومميزات هذا الإنسان وبيئته التابع لها والمتعلق بها كفرد من أفرادها .
ومنذ بدايات استقرار الإنسان على هذا الكوكب الأرضيّ ، طوّر البشر أنظمة مختلفة معقدة والتي من خلالها يتميزون بأنفسهم من بين سائر البشر في المجموعة الإنسانية وتعتبر البيئة العمرانية مثالاً معبّراً عن بعض الأنظمة المطورة من قبل مختلف المجموعات الحضارية في العالم . فهي تعبر عن محاولات إنسانية للأوضاع والتعبير عن هوية معينة بشكل جماعي وتعاوني . فالبيئات العمرانية في العالم أجمع تتباين وتختلف اختلافاً كبيراً وذلك لعدة عوامل متباينة ، كالديانة والثقافة والطبيعة البيئية والاقتصاد والموقع الجغرافي . وتلك البيئات العمرانية المتميزة ، تحولت وتطورت من خلال مدد طويلة من التجارب الحضرية والمدنية . هذه التجارب الحضرية تأثرت بالعادات والتقاليد وطرق الحياة الاجتماعية والحضارية لقاطني البيئات العمرانية المختلفة .
إن موضوع هذا البحث يختص بالبيئة العربية الإسلامية . فمنذ بداية القرن الماضي ، وبالتحديد منذ بداية الخمسينات الميلادية من القرن المنصرم حدثت تحوّلات جذرية وأساسية في البيئة العمرانية نتيجة للتطور الاقتصادي الذي شهدته المنطقة العربية والإسلامية عامة ، والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص والتي هي موضوع هذه الدراسة وتمثل تجربة حية من تجارب النمط العمراني والمعماري المستحدث في البيئة العمرانية .

المشكلة المطروحة :
عبر التاريخ الإنساني المسجّل والموثّق ، طوّر كل كيان حضاري وثقافي بيئته العمرانية المميزة والخاصة به والتي توافقت مع معتقدات وطرق وأساليب الحياة في هذا الكيان . ولا تخلو أي بيئة عمرانية من أن تحوي خصائص عمرانية مميزة تعبر عن تراث معين ، ويضيف كل جيل من الأجيال المنضمة تحت لواء هذا التراث مجموعة من الخصائص . هذه الإضافات إلى البيئة العمرانية تكون في الغالب مولدة ومستوحاة من المحيط والإطار الاجتماعي والحضاري لهذا التراث . ولذلك تصبح النتيجة من هذا التفاعل أن هناك تناسقاً وتناغماً وانسجاماً متواصلاً ومترابطاً بالتراث العمراني والمعماري للأجيال السابقة . إن هذا الترابط والتواصل العمراني المنشود بين الأجيال المتلاحقة يضفي على البيئة العمرانية الصبغة الخاصة والمميزة وبالتالي ، تصبح المواهب الطبيعية المتولّدة والناشئة عند أي كيان حضاريّ وثقافي ، محميّة ومحافظ عليها ، وتغذي هذه المواهب والقدرات بطريقة مستمرة ودائمة .
إن هذا التواصل والترابط الحضري مهم جداً لوصل وربط الأجيال المختلفة والمتلاحقة في الكيان الحضاري والثقافي لأي من البشر . ويصبح الهدف من هذا النهج العمراني هو الحصول على حاضر أصيل وموثوق به . وجدير بالاحترام والتصديق إلى جانب أنه مرتكز على جذور ثابتة وأساسات دعائمها قويّة يستمدّها من ماضيه ، بالإضافة إلى ذلك ، يتولد نوع من الإحساس بالربط والوصل الطبيعي بين الماضي والمستقبل لهذا الكيان الحضاري من بين الأمم والكيانات المختلفة .
إن هذه المعادلة المتوازنة للربط والتواصل الحضري والعمراني ( اختلت ) منذ بداية القرن الميلادي المنصرم في المناطق العربية الإسلامية . فبالنسبة إلى منطقة الجزيرة العربية ، وبالأخص المملكة العربية السعودية ، فإن هذا الاختلاف في المعادلة العمرانية ابتدأ فعلياً منذ الخمسينات الميلادية من ذلك القرن . خلال تلك الفترة الزمنية، حدث تحول عمراني كامل أحدث الكثير من التباين الحضاريّ والاجتماعي في البيئة العمرانية المستحدثة . فقد صمّمت هذه البيئة العمرانية المستحدثة في ظروف بيئية واجتماعية وحضارية مختلفة ، ولا تتناسب في كثير من الأحيان مع المتطلبات الحضارية والاجتماعية في الوسط والمحيط العربي والإسلامي .
إن سلسلة التحول العمراني والحضري طبّقت ونفّذت تحت تأثير هاجس وتيار "اللاتثاقف الحضاري" ( Urban In- acculturation ) ، والذي سنقدمه في منهج هذه الدراسة ، ولهذا ، تحول التواصل مع الماضي الحضري والعمراني إلى انفصال وانفكاك من التراث العمراني والحضري . ونتيجة لذلك ، وقع السكان في المدن والبيئات العمرانية المستحدثة في دوامة صيانة وحفظ الهوية العمارية والعمرانية ومحاولات تكييف تلك البيئات العمرانية المستحدثة إلى طرقهم وعاداتهم وأساليبهم الحضارية والاجتماعية .
تتركّز هذه الدراسة على البيئة العمرانية المستحدثة . ولكن محاولة فهم وتحليل ودراسة البيئة العمرانية التقليدية مهم جداً وذو دلالة ومغزى ، للحصول على مدخل متوازن للمشاكل والصعوبات التي تواجه البيئة العمرانية المستحدثة . فالهدف هنا عدم المناداة والتصريح بقبول وإقرار نفوذ وسلطة الماضي التراثي العمراني والمعماري من غير تصرف ، ولكن لقبول أصالة وموثوقية هذا التراث العمراني ، ومن ثم قيمة هذا التراث كمصدر للتواصل بين البيئة العمرانية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها . وتكون بالإضافة إلى ذلك ، المستند والأساس الذي تنبثق منه الأفكار والتطبيقات العمرانية بشتى أنواعها . فالكثير من الحلول العمرانية التمست وانبثقت من دراسة وتحليل البيئة العمرانية التقليدية والتراثية في كثير من الكيانات الحضارية بمختلف دول العالم . والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة . وهذا لا يعني تفرد التراث العمراني بالتحكم في بنية وشكل البيئة العمرانية الحالية نظراً للاعتبارات الاقتصادية والتقنية المتغيرة باستمرار . ولكن ، عوضاً عن ذلك ، يجب النظر إلى التراث العمراني كسلسلة من المتغيرات بدلاً من النظر إليه كهدف ثابت ومستقر وجامد تعوزه الحركة والحياة . في الفترة المعاصرة ، أصيبت الروابط مع الماضي العمراني من خلال هذه السلسلة من المتغيرات ، بتحدّ واختبار عمرانيّ جذري وعميق انتزعها من أصولها العمرانية التي نمت وترعرعت فيها . إن التباين بين القديم والجديد ، التراثيّ والمستحدث ، نتج عنه تباينات اجتماعية وحضارية كان لها أثراً على الهوية العمرانية في محيطها وبيئتها العربية الإسلامية . وتجلى ذلك في ظهور أنماط عمرانية وعمارية مختلفة ومتباينة . وبات القاطن الحضري يدور حول معضلة مفادها كالتالي : هل يرتبط هذا الساكن الحضري ذهنياً واجتماعياً وحضارياً بالبيئة العمرانية والمعمارية التقليدية أو المستحدثة ؟ ففي البيئة التقليدية ، هناك تصور ذهني واضح ، وهناك علاقات اجتماعية قوية ومترابطة ونوع من الارتباط والإنتمائية إلى الكيان الحضاري العربي الإسلامي ، بالإضافة إلى هذا ، فإن البيئة المتضامة والمدمجة وتقارب الوحدات السكنية والمبنية في معظمها على أساس التقارب والعلاقات العائلية والإقليمية، أدّت إلى نوع من الإحساس بالتعاضد الاجتماعي وتأكيداً للهوية الجماعية في البيئة العمرانية التقليدية . وعلى العكس من ذلك ، فإن تطبيق الأنظمة العمرانية والمعمارية والمستحدثة في التخطيط الحضري الحالي أدى إلى إضعاف العلاقات والتعاضد الاجتماعي نظراً لعدم الأخذ بالغطاء الاجتماعي والحضاري لساكني هذه البيئات العمرانية المستحدثة .
في هذا البحث ، سنحاول تقديم تجربة النمط المعماري والعمراني المستحدث في البيئة العمرانية العربية الإسلامية والتي دعمت بدراسة ميدانية موزونة لواقع الأحياء الجديدة والمستحدثة في مدينة الرياض – عاصمة المملكة العربية السعودية .
منطقة الدراسة :
لقد تم ، بحمد الله ، عمل الدراسة الميدانية المتعلقة بهذا البحث في مدينة الرياض وهي أكبر مدينة في المملكة العربية السعودية ، وقد تحولت هذه المدينة وبسرعة متناهية ، من مدينة تقليدية متضامّة ومتقاربة ومتصلة ببعضها البعض إلى مدينة ضخمة وواسعة ومتناهية الأطراف على وجه الصحراء . وقد مثّلت المدينة التقليدية تطوراً طبيعياً وعضوياً ، آخذة بالاعتبار مقاييس وعادات وتقاليد اجتماعية وحضارية . هذه المدينة التقليدية برزت ، وبشكل طبيعي وتجريدي ، من عمران تقليدي عميق في التاريخ ممثلاً لأجيال مختلفة متعاقبة حتى بدايات الفترة المعاصرة من الخمسينيات الميلادية . وقبل فترة التحول العمراني هذه ، اشتركت الأجيال المتعاقبة في تكوين تراث عمراني موحد ومترابط ومتميز في هذه المدينة . وابتدأت التغيرات على بنية البيئة العمرانية في النصف الأخير من هذا القرن . وتعرضت البيئة العمرانية ، وخلال فترة جيل واحد من الزمن ، إلى تغير كامل من الاتجاه العمراني التقليدي إلى الاتجاه التصنيعي المنتج على شكل واسع ورتيب . ولم يكن هناك محاولات جادة لتأليف وتطويع هذا التحول العمراني الجذري بما يناسب العادات والتقاليد والأساليب الحضارية والاجتماعية لقاطني المدينة .
ولهذا ، ومن هذا المنطلق ، فإن هذه البيئة العمرانية المختارة لعمل الدراسة الميدانية تمثل أنموذجاً من الطراز الأول "لعملية اللاتثاقف الحضاري" ، والتي سبق وأن تكررت مثيلاتها في أجزاء متعددة من العالم العربي الإسلامي ، ولكن الفرق بين أنموذج الرياض والنماذج الأخرى ، هو أن سلسلة التغيرات العمرانية اختصرت في مدة وجيزة من الزمن. ولهذا، فان معظم قاطني المدينة شهدوا هذة التغيّرات عن كثب . وبالتالي ، فإن مشاهداتهم وانطباعاتهم وإدراكاتهم وخبراتهم تكاد تكون ذات مصدر مهم ومفيد في أساس هذه الدراسة البحثية .
ولقد شملت هذه الدراسة الميدانية كامل المدينة تقريباً . ولم يتم اختيار حي محدد من أحياء المدينة ، ولكن تم تجميع الاستبيانات من ست وثلاثون حياً من أحياء الرياض. وقد تم توزيع ثلاثة آلاف استبيان ونتج عن هذا جمع خمسمائة وأربعة استبياناً ( 504) ، أو ما يعادل ( 17%) مما وزع في المدينة .
المنهج المتبع في هذه الدراسة :
عندما يتعلق الأمر بمنهجية البحث ، سيكون التركيز هنا على الأسلوبين التحليليين النوعي والكمي للنتائج المستنبطة من البحث الميداني لهذه الدراسة . إن عملية تحليل تجربة النمط المعماري والعمراني المستحدث في البيئة العمرانية العربية الإسلامية ، أو في أي بيئة عمرانية أخرى ، تستدعي استعمال الاستنتاج الاستقرائي والنقاش العقلاني . ويعتبر هذا الأسلوب الاستنتاجي مفيداً لعملية الشرح والتحليل وإيضاح الأسباب الخفية للتباينات الحضارية والاجتماعية في البيئة العمرانية المستحدثة .
وركّز مخطط البحث لهذه الدراسة على اختبار العلاقات الاجتماعية ومفهوم الهوية في البيئة العمرانية . وقد كانت الفرضية الأساسية لهذا البحث هي الموجه والدليل لهذا المخطط البحثي . هذه الفرضية من الممكن تلخيصها في الآتي : إن العلاقات الاجتماعية / المكانية ( العمرانية ) تغيّرت نسبياً منذ الخمسينات الميلادية في مدينة الرياض نتيجة للتحولات السريعة في البنية العمرانيه والمعمارية . وأن هذه التغيرات في العلاقات الاجتماعية لم تتوافق وتتزامن مع التغيرات في القيم والعادات والأساليب الاجتماعية والحضارية لقاطني الأحياء السكنية في مدينة الرياض .
أما قاعدة المعلومات المرتبطة بهذا البحث ، فقد اشتقّت واستنبطت من خلال استبيان مطوّل ومفصّل . هذا الاستبيان حوى الكثير من الاستفسارات والاستعلامات النوعية والكميّة . أما من ناحية المعلومات الثانوية المرتبطة بهذه الدراسة ، فقد أمكن الحصول عليها من خلال الملاحظات والدراسات المقارنة والمتعلقة بعلم العمران الاجتماعي . أضف إلى ذلك ، خبرة الباحث كممارس لمهنة هندسة العمارة في مدينة الرياض ولفترة من الزمن .
عند النظر إلى هذه الدراسة كوحدة متكاملة ، هناك بعض القيود التي يجب أن نضعها في عين الاعتبار وهذه القيود من الممكن تلخيصها كالتالي :
* إن طبيعة الأسئلة نوعيّة في معظمها .
* وحيث أن طبيعة الأسئلة نوعية ، فيجب أن لا ننظر إلى نتائج الدراسة الميدانية كحقائق ثابتة .
* تم توزيع معظم الاستبيانات بطريقة عشوائية ، وبالتالي فإن طريقة التوزيع هذه وغياب المقابلة الشخصية لمعظم عينة البحث قد يؤدي على عدم الفهم الكامل والواضح لبعض الأسئلة التخصصية والمعقدة . ولهذا ، فإن وجهات نظر وأفكار المشاركين المتخصصين والمتعلمين كيّفت نتائج طريقة البحث المتبعة في هذه الدراسة وعلى كل حال ، وعلى الرغم من هذه القيود المذكورة آنفاً ، فإن منهج البحث يعتبر مناسباً لهذه النوعية من دراسات علم العمران الاجتماعي نظراً للتكاليف الباهظة في إجراءات المقابلات الشخصية لعينة بحث كبيرة .
المدخل النظري :
إن الخصائص والمبادئ الصافية للبيئة العربية الإسلامية ، ظلت ثابتة ومستديمة منذ بدايتها الأولى، فالحضارة العربية الإسلامية تحوّرت وتكوّنت من خلال التثاقف الحضاري مع عدة حضارات مختلفة كالإغريقية والرومانية والفارسية والهندية . وفي بدايات تلك الحقبة من التاريخ الإنساني لم يكن هناك أي ضغوط وعوامل نفسية تمنع وتحدّ من تطور وانتشار مبدأ التثاقف الحضاري مع الحضارات والمجتمعات الأخرى . إن فكرة التثاقف الحضاري تؤكد على مدى قدرة واستطاعة الشعوب على اختزال وهضم الأفكار والأطروحات الأجنبية ووضعها في المكان المناسب من المحيط الحضاري والاجتماعي المحلي .
وفي تلك الحقبة الزمنية الغابرة من حقبات الحضارة العربية الإسلامية ، كان هناك هضماً حضارياً متزناً للثقافات الواردة . فهذا هو ابن الكندي ( 801 – 866 ) يؤكد على أهمية فكرة "التثاقف الحضاري" وأنه يجب أن لا نخجل من تقبل الحقيقة من أي مصدر كان حتى ولو أتت من أجيال سابقة أو شعوب أجنبية . فالذي يبحث عن الحقيقة يدرك أنه لا شيء يصل إلى منزلة الحقيقة بحد ذاتها . فالروح الجريئة والمستقلة للإبداع والتقييم ، كانت العامل الرئيس في تكوين عظمة حضارة تلك الفترة التاريخية.
في الفترة العربية الإسلامية المعاصرة، يعمل المفكرون والمبدعون في حيّز ضيق ، ويقعون تحت الكثير من الضغوط والإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ، فبالتالي فإن الحرية الاختيارية المستقلة تناقصت واضمحلت إلى أبعد الحدود والنتيجة المتوقعة أن مدى الاستفادة من الفكر الغربي محدودة ، وستبقى كذلك ، لأن معظم المفكرين المعاصرين ( من معماريين ومخططين وإداريين وشعراء وغيرهم ) يعتمدون بكثافة على التفكير الغربي بدلاً من الاعتماد على التطوير الذاتي الداخلي الإبداعي لأنفسهم . وهذا هو ما يطلق عليه " باللاتثاقف الحضاري " أو بالأحرى عدم القدرة على استيعاب واستئناس الأفكار الأجنبية في المحيط الحضاري والاجتماعي للأمة العربية الإسلامية . فنظريات التحديث والعصرانية أنتجت نمطاً من "اللاتثاقف الحضاري" . ان الأمل والرغبة في التقدم والتحديث منذ بداية القرن ، صاحبه فقد للسمات الفردية الحضارية والاجتماعية . فالتجارب التاريخية الغنية لأي مجموعة إنسانية تنتج الحضارة والتراث المستقل والخاص بها .
ويؤكد علماء الاجتماع أن هذه التجارب التاريخية هي ما نسميه بالتراث والذي هو أصلاً مشتقّ من مصطلح الميراث . فالتراث الحضاري هو ما ترثه الأمة من الميراث . فكما يوزع الإرث ، كذلك التراث الذي هو حاصل ( التجارب ) التاريخية والثقافية والروحية الموروثة من جيل إلى الجيل الذي يليه . فالتراث هو وجود وحضور الأب في ابنه وابنته ، ووجود الماضي في الحاضر . هذا الوجود يشمل الدين واللغة والأدب وطريقة التفكير والآمال والتطلعات المستقبلية والبيئة العمرانية والمعمارية التي هي موضوع بحثنا هذا . فالجابري يؤكد على أن التراث هو ما هو موجود بنا أو معنا من الماضي . هذا الماضي قد يكون ماضينا أو ماضي غيرنا من القديم والقريب . ويناقش الهذلول ، أحد الباحثين في مجال العمارة والعمران ، كيفية تحور وتغير التراث عبر الزمن ، حيث أن مفهوم التراث يحوي الكثير من عناصر التقليد ، ويتساءل عن كيفية الاستمرارية في التراث . بمعنى آخر ، هل توجد الاستمرارية في تراث متغير ؟ فالمعضلة الرئيسية هنا ، هل بالإمكان حفظ وصيانة التراث الحضاري والاجتماعي أو تأسيس نوع من التواصل والاستمرارية مع هذا التراث ؟
وفي واقعنا العمراني والمعماري ، فالنبضات الإبداعية والتجديدية للمجتمع المدني لم تكن على المستوى الذي ينشده ويتطلع إليه قاطنو تلك البيئات العمرانية . ولقد حذر المعماري العربي/ حسن فتحي ، من النتائج الوخيمة للقبول الكامل لمبادئ العمارة وتخطيط المدن المستوردة من الخارج . فالمبدأ هنا هو أن لا يُرفض الفكر العمراني والعماري الحديث والعصري أو التقليد الأعمى للتراث . والطريف هو المناقشة المفتوحة والتحليلية والتقويمية للماضي العمراني التراثي فالماضي العريق يجب أن لا يكون شيئاً سلطوياً ، بل يجب أن يعطى القيمة والوكن المناسبين . ولقد كان هناك ثوابت حضارية واجتماعية رئيسية وثابتة في الماضي . كانت آلية الاقتراض الحضاري تعمل بكفاءة عن طريق الاختزال والاستيعاب في محيط الحضارة العربية الإسلامية ، ولم تنجح مفاهيم التحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ، لأنها بدلاً من أن تعزز دور التثاقف الحضاري ، أدّت إلى ما نسميه باللاتثاقف الحضاري . والنتائج كانت كالتالي : -
• لم تكن الحلول العمرانية المطروحة أصيلة بالقدر الكافي .
• لم تصف هذه الحلول والنماذج العمرانية احتياجاً اجتماعياً طبيعياً .
• هذه الحلول العمرانية تقبلت النماذج الأجنبية تقبلاً كاملاً من دون اختزال واستيعاب في المحيط الحضاري والاجتماعي .
المجتمع والمحيط العمراني .. مفارقات عصرية :
إن من حق أي مجتمع تكوين بيئة عمرانية مناسبة تلائم هويته الحضارية والاجتماعية . ومن الواجب على أي بيئة عمرانية قيمة أن تتجاوب مع المتطلبات الحضارية والاجتماعية لقاطنيها من عادات وتقاليد وقيم ومبادئ . هولود ( Holod ) ، أحد الباحثين الغربيين في هذا المجال ، يؤكد على أن أهمية الوجود الإنساني تكمن في خلق وتكوين بيئة عمرانية ومحيط عمراني تتطابق وتتماثل مع المجتمع القائم وخاصة به . فالعناصر الموجودة في محيط أي بيئة عمرانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعادات والتقاليد والقيم الحضارية والاجتماعية للمجتمع .
وفي عام 1970 م ، كتب أحد الباحثين الأمريكيين كوليك ( Culick ) عن معضلة قاطني مدن الشرق الأوسط في معاناتهم بين الحياة التقليدية وبين ما أسماه بالتغيير الحتميّ المتسارع . فقد كتب بأن ( الشرق أوسطي ) يعيش بين عالمين مختلفين. فالعالم الأول هو البيئة العمرانية التقليدية المميّزة ، والتي تغير الكثير من معالمها في الآونة الأخيرة . وبين العالم الثاني ، والذي هو عناصر معينة من المجتمع الصناعي الأوروبي والأمريكي تحوي الكثير من عناصر التغيير في الشرق الأوسط . واستمر "كوليك" بالتأكيد على وجود مفارقات مباشرة في العناصر المحيط العمراني والاجتماعي بين الماضي التقليدي والحاضر الراهن .
وأضاف ما معناه بأن إيجاد تركيبة متوازنة ومقبولة للعناصر التقليدية والمستوردة كان ، ولا يزال يمثل سلسلة مثقلة من الضغوط النفسية والارتباكات في القيم . هذا الانزعاج والقلق صاحب جميع التجارب في العالم والتي حاولت الجمع بين حضارتين مختلفتين . ولكن في الوضع الذي نحن بصدده ، فالصعوبات لا بد أن تكون كبيرة إلا أن كلا الحضارتين العربية الإسلامية والغربية ، كلاهما حضارتان معقدتان ومتطورتان ومصقولتان إلى أبعد الحدود .
هناك الكثير من الوسائل للتعبير عن "الهوية" . ومن أهم هذه الوسائل البيئة العمرانية . فالبشر يستخدمون المحيط العمراني لمحاولة إظهار وإبداء تميزهم وانفرادهم كمجموعات بشرية أو كأفراد . هذا العرض المتميز ، لأي مجموعة بشرية في العالم ، يعمل من خلال مقاييس وحدود ارتأتها العادات والتقاليد ، وعرفتها حضارة ومجتمع هذه المجموعة البشرية .
هيوت ( Hewitt ) عرّف الهوية بعلاقاتها الثلاثة : الأولى : هي علاقة الفرد المعنوية والارتباطية بما حوله . والثانية : هي الهوية الفردية كتفسير لقيم ومبادئ الفرد نفسه ، بمعنى آخر ، نعرف مجموعة من البشر نفسها تعريفاً معيناً ، وهي تملك ميزان وقيم معينة . وبالتالي ، فهي أيضاً تعرف نفسها مع آخرين من نفس الخلفية الحضارية والاجتماعية للحصول على نوع من الارتباط والانتماء ، ولإعطاء المثال على هذا ، فالشعب السعودي يعرف نفسه بالجزيرة العربية والتي بالتالي هي جزء من الأمة العربية وإلى حدود أبعد ، تعرف بالأمة الإسلامية ، والعلاقة الثالثة هنا هي أن الهوية المحصورة بالتراث والحضارة ، محددة تاريخياً واجتماعياً .
برجر ( Berger ) يؤكد على أن الهوية هي نتاج للوعي والشعور الفردي خلال فترات من المخالطة الاجتماعية وخاصة التجارب والخبرات النمطية اليومية . وفي ظروف وأحوال مختلفة ، يتولد هناك وعي ذاتي ارتباطي بالهوية الحضارية والاجتماعية المحيطة . وينظر البشر بحماس إلى أنماط مستحدثة للشرح والتعبير عن حالهم الراهن وعن مستقبل التحور والتطور لسلسلة الهوية . ولإعطاء المثال على هذا، فخلال المائة عام الماضية كان هناك ، ولا يزال ، بعض الدعم والتعزيز لسلامة وكمال الحضارة والثقافة العربية الإسلامية من خلال إطراء وتمجيد عاطفي وتوق للعودة إلى ماض يتعذر استراداده بالكامل . وفي نفس الوقت ، نقد الجديد والمستحدث بأكمله بما فيهم من استحدث واستورد الجديد إلى محيط الثقافة العربية الإسلامية . وهؤلاء يجادلون على أنهم يتقبلون جميع المثل والمبادئ وطرق الحياة الأجنبية .
وبالرجوع إلى كوليك ( Culick ) ، والذي استعرنا بعض كتاباته آنفاً ، كتب ما معناه بأن العيش بهذه المفارقات والتناقضات في كيان الشخص الواحد لا بد وأن يكون تجربة حزينة فعندما يكون تأثير العوامل الخارجية قوياً على أي مجموعة حضارية ، يكون التعبير عن الهوية مشوشاً وذو اتجاه غير محدد . ومنذ مدة من الزمن ، والشعوب في المنطقة الحضارية العربية الإسلامية واقعة بين معضلتين : الهوية الحضارية وما يتبعها من بيئة عمرانية وعادات وتقاليد وطرق التفكير ، ومن جهة أخرى ، معضلة التحديث والحداثة والتي تتضمن وتحوي الكثير من التأثيرات الحضارية الخارجية .
رابابورت ( Rapaport ) ، أحد الباحثين المتميزين في مجال العمارة وتاريخ العمران يؤكد على لجوء الناس إلى "استخدام أنظمة وطرز بناء دفاعية" لحفظ وصيانة هوياتهم وتحقيق الاستمرارية مع حضارتهم . وهذا ملاحظ في الكثير من المدن السعودية ، ففي الرياض مثلاً ، يهتم الناس مؤخراً بالواجهات واللمسات العمارية المستقاة من طراز العمارة المحلي وكذلك الحال في المدن السعودية الأخرى .
إن التركيز في نتائج البحث الميداني سيكون على جزء معين من التباينات الحضارية والاجتماعية في تجربة النمط العمراني المستحدث في البيئة العمراينة لمدينة الرياض . هذا الجزء يختص بمشكلة الخصوصية في الواقع البيئي العمراني لأحياء المدينة المستحدثة والسلوك الإنتمائي لقاطني تلك الأحياء بين الماضي والحاضر .
السلوك الانتمائي بين الماضي والحاضر :
من المعايير المهمة لطبيعة العلاقات والحياة الاجتماعية بين أعضاء أفراد المجتمع هي درجة وقوة السلوك الانتمائي . فالسلوك الانتمائي من الممكن تعريفه بالعلاقات الاجتماعية الدافئة والإيجابية مع الآخرين وربط الكثير عن علماء النفس مفهوم السلوك الانتمائي بإرضاء الاحتياجات الإنسانية الأخرى ، كالغذاء والأمن والهوية وإيجاد الذات والفهم والاستيعاب . بالإضافة إلى هذا ، فإن كاتب هذه السطور يؤمن بأن البيئة العمرانية تلعب دوراً مهماً في التأثير على درجة وقوة ومدى حرارة السلوك الانتمائي . وأنه بالإمكان رفع أو خفض درجة العلاقات الاجتماعية ببساطة عندما نجعل البيئة العمرانية المحيطة أكثر قبولاً ولطفاً من قبل قاطنيها مما يبعث الطمأنينة والسرور والبهجة بين الأفراد والجيران . وفي بيئتنا العربية الإسلامية ، شوّهت تلك البيئة المعمارية والعمرانية اللطيفة والبهيجة إلى حد كبير خلال المائة عام الماضية . وأصبحت الهوية المعمارية والعمرانية وارتباط القاطنين بالبيئة المحيطة متباينة ما بين التحديث والحداثة والتقليد والتراث .
وعندما نريد من السكان أن يقيموا العلاقات الاجتماعية ، فيجب أن توفر لهم البيئة العمرانية المناسبة ، بتشكيلها العمراني ، ووحداتها السكنية ، من أجل أن تأخذ هذه العلاقات حيزها في المحيط الاجتماعي . ويذكر الباحث المعماري نوبل ( Noble ) بأن على المعماريين أن يشكلوا السلوك الإنساني بالبيئة العمرانية والمعمارية التي يصمموها .
ومن خلال السلسلة التصميمية المعمارية ، فإن على المعماريين أن يضعوا في حسبانهم افتراضات واحتمالات السلوك والتصرفات الإنسانية . ويعتمد مدى نجاح أو فشل التصميم المقترح على القدرة الاستيعابية لفهم وتنبؤ أي تصرف وسلوك إنساني وبدرجة كبيرة من الدقة . وللأسف ، فإن هذا المنهج المعماري أهمل في البيئة العمرانية العربية الإسلامية ، وأصبحت النتيجة تباينات حضارية واجتماعية في المحيط العمراني .
وتعتمد العلاقة بين المحيط العمراني والسلوك الانتمائي على ثلاثة عناصر ; البيئة العمرانية ، السلوك والتصرف العلني والصريح ، والقوى الداخلية التي تحفز وتبعث على مثل هذا التصرف والسلوك . وهناك سمات معمارية في البيئة العمرانية لها تأثير على القوى الداخلية التي تحفز السكان والقاطنين ( كالإدراك الحسي والمعرفي ) . هذه القوى الداخلية ستترجم طبيعياً إلى سلسلة من السلوك الانتمائي . ويجب فهم واستيعاب هذه السلسلة جيداً عند تصميم الأحياء السكنية والمنازل وأماكن التجمع الحضرية . وبمعنى آخر فإن السلوك الانتمائي هو الحاجة إلى المشاركة والانتماء والتعرف بالبشر الآخرين الذين يتشاركون ويتشابهون بالصفات والقيم والتطلعات الحضارية والاجتماعية
التحليل :
وضعنا في بدايات هذه الدراسة الفرضية التي تقول بأن العلاقات الاجتماعية والترابط ما بين الجيران في أحياء المدن العربية والإسلامية تأثرت سلبياً نتيجة للتغيرات السريعة والكبيرة في البيئة العمرانية التقليدية . وهذا بالإضافة إلى عوامل اجتماعية واقتصادية كثيرة أخرى . ومن أجل فحص وتمحيص هذه الفرضية تقدمنا ببعض الأسئلة إلى عينة البحث في مدينة الرياض . وبالإضافة إلى هذا طلبنا من المشاركين الكبار نسبياً في العمر ، أن يقارنوا درجة السلوك الانتمائي في تجاربهم الحضرية ما بين الماضي والحاضر .
وابتدأنا بالتساؤل عن عدد وتكرار اللقاءات والزيارات مع الجيران في الحي السكني . وأجاب ( 34.12 % ) من المشاركين بأنهم يلتقون مع جيرانهم يومياً في مسجد الحي ، والذي يعتبر مكان التجمع الوحيد في الحي السكني . أما ( 15.08%) من المشاركين فإنهم يلتقون بصفة أسبوعية و ( 11.90% ) يتقابلون مع جيرانهم حوالي كل شهر تقريباً . ( 16.66%) لا يلتقون بجيرانهم إلا من العيد إلى العيد ، ولا يلتقي (10.31%) من المشاركين في هذا البحث الميداني إطلاقاً مع جيرانهم . ولم يجب (11.90%) على هذا التساؤل .
واختلفت الإجابات على هذا التساؤل قليلاً عندما وجهت إلى النساء ( 30.95%) يجتمعون مع جيرانهم بصفة شهرية و ( 25.30%) يجتمعون كل أسبوع . أما 8.73% لا يجتمعون إلا من العيد إلى العيد . ( 7.14%) يجتمعــــون مع جيرانهم بصفة يومية مقارنة بـ (34.12%) بالنسبة للرجال الذي يجتمعون بصفة يومية في مسجد الحي . وهذا شيء متوقع حيث تصلي النساء في البيوت . ولكن تكرار اللقاءات الاجتماعية مع الجيران بصفة أسبوعية وشهرية ، كان أعلى مما هو عليه عند الرجال المشاركين في هذه الدراسة . وهذا نتيجة طبيعية ومتوقعة حيث يكون التصرف والسلوك الانتمائي عند النساء أقوى مما هو عليه عند الرجال . بالإضافة إلى أن المرأة غالباً ما تكون ربة بيت وليست عاملة ، وبالتالي فلديها الكثير من وقت الفراغ المتسع للزيارات الاجتماعية . وعلى كل حـــال . فقد كـــــان هناك عدد كبير نســــــبياً لم يجب على هذا الاستفـــسار ( 19.04%) ، حيث كانت معظم الإجابات من الذكور . ولم نر هنا ، أي علاقة ارتباط تذكر ما بين المستوى التعليمي ومدى قوة السلوك الانتمائي ممثلاً بالتقارب الاجتماعي ما بين الجيران . بالإضافة إلى هذا ، فإن نوعية المسكن وهل هو ملك أم بالإيجار ومستوى دخل المشارك في الاستبيان ، لم يكن لها أي علاقة ارتباط مهمة بمدى قوة أو ضعف التقارب الاجتماعي ما بين الجيران . وزيادة على ذلك ، عندما ربطنا العامل العرقي والإقليمي بمدى قوة السلوك الانتمائي في أحياء المدينة المتعددة ، وجدنا بأن هناك نوع من الارتباط المهم ما بين هذين العنصرين الاجتماعيين . وعند تحليل تلك النتائج ، وجدنا أن هناك علاقات اجتماعية أقوى ما بين الجيران الذين تقطن عوائلهم الممتدة في الجوار أو في ذات الحي السكني .
وعلى كل حال ، فإن عامل الارتباط لم يكن على درجة كبيرة من القوة ، ولكنه يبين ويوضح دور العامل العرقي والإقليمي في تركيبة البيئة العمرانية الحالية ، وإن لم يكن يلعب الدور المهم الذي كان يلعبه في السابق .
وفي تساؤل عن نوعية التواصل الاجتماعي المفضل لدى عينة الدراسة ، أجاب عدد كبير تفضيلهم للزيارات الشخصية ( 63.49% ) . وفضل ( 18.25% ) استخدام التليفون كوسيط في علاقاتهم الاجتماعية . أما ( 15.87%) من المجيبين ، فقد فضلوا الخيارين السابقين . ولم يجيب ( 2.38% ) على هذا التساؤل . ويجب أن نضع في الذهن هنا ، بأن التساؤل كان على التفضيل والرغبة ، وقد يكون واقع التواصل الاجتماعي مع الجيران والأقارب يختلف عما ذكر سابقاً .
واستكمالاً للتحليل الميداني ، فلقد سألنا عينة البحث عما إذا كانت العلاقات الاجتماعية ومدى حرارتها وقوتها ، قد تأثرت سلبياً في مجتمعاتهم المحيطة نظراً للتطورات والتغيرات العمرانية السريعة والتي حدثت في البيئة العمرانية بعد اكتشاف النفط وزيادة الدخل الاقتصادي . وبالتالي ، أقرّ ( 76.19% ) من المجيبين بما ذهبنا إليه آنفاً بأن العلاقات الاجتماعية مع الجيران والأقارب تأثرت سلبياً نظراً للتغيرات المتسارعة في البيئة العمرانية . ولم ير ( 6.34% ) أي علاقة ما بين تغيرات البيئة العمرانية ومدى حرارة وقوة العلاقات الاجتماعية والانتمائية بين قاطني الأحياء السكنية والمدينة بشكل عام ولم يجب ( 17.46% ) على هذا التساؤل . ومن الواضح للقارئ هنا ، أن الكثير من المشاركين في هذه الدراسة الميدانية يوافقون على أن التغيرات العمرانية السريعة في البيئة العمرانية أثرّت على العلاقات الاجتماعية والسلوك الانتمائي ما بين الجيران والأقارب في المجتمع .
وعندما نكمل البحث عن التواصل الاجتمـــاعي في الأحيـــــــاء الـــحالية ، نرى بأن (49.20% ) من المشاركين يحاولون مساعدة جيرانهم في بعض الأحيان . بينما 34.92% أكدوا بأنهم يحاولون مساعدة جيرانهم في معظم الأحيان . وأكد معظم المجيبين بأن الناس كانوا أكثر تعاوناً واستعداداً للمساعدة في الماضي القريب .
وفي استفسار آخر عن البادئ في إنشاء العلاقات الاجتماعية مع جاره / جارتها ، أجاب ( 38% ) بأنهم المبتدئين بهذه العلاقة . أما ( 24% ) من العينة ، فقد أجابت بأن جاره / جارتها ، هم الذين ابتدأوا بإنشاء هذه العلاقة الاجتماعية معهم . ونستنتج هنا بأن قاطني البيئة العمرانية متحمسون ومستعدون لإنشاء العلاقات الاجتماعية مع جيرانهم المحيطين بهم ، على الرغم من محددات ومعوقات البيئة العمرانية الحالية . ولم نجد هناك أي علاقة ما بين تعاون الجيران ونوعية المسكن في أحياء المدينة المختلفة . وسئلت العينة أيضاً عن انطباعات جيرانهم على مــدى وقوة الزيارات الاجتماعيـــة وأجاب (45.23%) من العينة بأن جيرانهم كانوا طيبون . أما ( 31.74% ) تكونت لديهم انطباعات بأن جيرانهم طيبون جداً ويرغبون في زيادة وتقوية الأواصر الاجتماعية معهم .وذكر ( 7.93% ) من عينة البحث أن جيرانهم لم يأبهوا لأي علاقة اجتماعية ، ولم يجب ( 15% ) على هذا التساؤل . وعندما سألنا المشاركين في هذا الاستبيان عن رأيهم في العلاقات الاجتماعية من تواصل وزيارات وترابط أسري في الأحياء التقليدية ، وبأن هذه العلاقات كانت أكثر تكراراً وأقل تكلفاً مقــارنة بما هي عليه في الأحياء الحضـــرية الــــحالية . أجاب ( 80.8% ) بأنهم يرون تلك العلاقات الاجتماعية أقوى وأفضل مما هي عليه الآن . وبالطبع ، هناك عوامل كثيرة كان لها أثر في هذه التغيرات الاجتماعية بما فيها الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية والجغرافية .
الخصوصية في البيئة العمرانية :
لقد عاشت المدن في المنطقة العربية الإسلامية ، خلال فترة التحول الطبيعي والتاريخي للبيئة العمرانية ، تطوراً موزوناً . فالصبغتان الحضارية والاجتماعية ، المستوحاتان من تعاليم الإسلام والعادات والتقاليد الاجتماعية ،أنتجتا مجموعة متوازنة من العادات والقوانين والأنظمة المتناغمة والموافقة لاحتياجات وتطلعات تلك المدن . وكان من نتائج هذا التحول بالذات ، تكوين بيئة عمرانية خاصة ومميزة عن بقية البيئات العمرانية في العالم . وإذا ما حدث تباين بين التكوين العمراني في مدننا وبيئتنا العمرانية ، وبين العادات والتقاليد في محيط البيئة الحضاري والاجتماعي . فلا بد من إجراء التقويم اللازم في هذا التكوين العمراني من أجل إرضاء رغبات احتياجات السكان حضارياً واجتماعياً .
ومن أسباب حدوث هذا التباين ، أن المواصفات والأنظمة العمرانية المخططة والموضوعة سلفاً ، قد أخذت مكان مدن التحول الطبيعي والمتدرج ، أو ما يطلق عليه الآن بالمدن التقليدية . حيث أن وثائق المخططات العمرانية وأنظمة البناء وقوانينه المتعددة لم تأخذ في الاعتبار ، العادات والتقاليد الاجتماعية والحضارية للبيئة العمرانية ، مما نتج عنه ، تفريغ تلك البيئات العمرانية من محتواها الأصيل . بل وقد وصل هذا التفريغ من المحتوى إلى حصول بعض التباين مع بعض القوانين المعمول بها في بعض البلدان . وهذه المخططات العمرانية البعيدة المدى ، وتلك الأنظمة والقوانين البنائية المطبقة في جميع أنحاء العالم العربي الإسلامي ، تطورت في بيئات عمرانية ومعمارية مختلفة من المحيط العربي الإسلامي . وتمثل جانباً من نظام قانوني وتراثي له صبغته الاجتماعية والحضارية الخاصة به وحده ، وبالتالي يصعب تطبيقها على الآخرين . وهذه المواصفات والقوانين العمرانية ( كعرض الشارع ، وارتداد المبنى عن الشارع ، والكثافة السكانية ، وارتفاع البناء ، ونسبة البناء إلى مساحة الأرض ، وأحجام ومساحات القطع السكنية وكيفية استخدام الأرض ) ، أبعدت سكان البيئات العمرانية عن بعض العادات والتقاليد الاجتماعية المتبعة ماضياً وحاضراً . وأنه لمن الأمور المتناقضة أن هذه المواصفات والأنظمة العمرانية تطبق بطريقة خالية من التخطيط المدروس .
ومن جانب آخر ، فإن التقاليد والأطر الاجتماعية تعمل على وضع أطر من الطرق الحياتية ، وبالتالي فهي تسمح لاحتمالات عمرانية تخطيطية متعددة ، بشرط عدم حدوث ضرر مباشر أو غير مباشر . بمعنى آخر ، هذه الأطر من الأنماط والطرق الحياتية تسمح بوجود مساحة "للتحرك والتنفس" إن صح التعبير ، وبالتالي فإن بوسع الفرد أن يصيغ بيئته العمرانية ، بدلاً من الوقوع تحت وطأة الأنظمة والقوانين العمرانية والتخطيطية الجامدة ، التي تخلو من المرونة . وهناك كثير من النقد وعدم الرضا في البيئات العمرانية الغربية ، حيث تطبق الأنظمة العمرانية بحرفيتها . ويناقش صالح الهذلول ، في بحثه عن المدينة العربية الإسلامية ، هذه المسألة ، فيقول إن المدخل التقليدي يحتم وجود علاقة مترادفة ، وإمكانية متوازنة ، بين البيئة العمرانية وأطر وحالات الاستخدام . بينما الأطر والأنظمة المعدة مسبقاً ، تحتم حالات الاستخدام فقط ولا تسمح بغيرها .
فالباحث يؤكد هنا ، بأن بعض الأنظمة العمرانية والتخطيطية لا تسمح بإقامة وتطوير علاقة مترادفة وإمكانية متوازنة بين الشكل العمراني والمعماري والاستخدام نفسه ، وبالتالي فإن هذا سيحد من تنويع التشكيل العمراني في المدينة نفسها . بمعنى آخر ، أن هناك علاقة حتمية بين الشكل والاستخدام . ومثال على ذلك ، فإن في الجزء التقليدي القديم للمدينة المنورة ، ثلاثة تصاميم معروفة للمنازل والبيوت . وتختلف هذه المنازل في الشكل والتوزيع المعماري ، ولكنها تتفق مع الأطر والتقاليد الاجتماعية والحضارية المتبعة ، أو ما يسمى ( الأساليب والعادات السلوكية ) . ومن جهة أخرى ، هناك النموذج الوحيد المتبع لنظام المنزل ( الفيلا ) في مدينة الرياض الحديثة ، حيث لا يستطيع الفرد أن يبني بيتاً عربياً تقليدياً ، لأنه يحب أن يأخذ بالاعتبار متطلبات الارتداد إلا إذا كان بإمكانه شراء قطعة أرض كبيرة جداً ، من أجل أن يبني فوقها بيتاً يأخذ ويفي بمتطلبات الخصوصية . ولذا فإن متطلبات الارتداد ، ونسبة الأرض المطلوب بناؤها ، والنوافذ المطلة على الجيران في واقع مدينة الرياض ، لا تحقق مبدأ الخصوصية ، وهو المهم جداً في المجتمعات العربية الإسلامية ، وفي مدينة الرياض ومدن البلاد الاخرى على وجه الخصوص .
التحليل وواقع الخصوصية في مدينة الرياض :
من أجل البحث والتحري عن إرهاصات مبدأ الخصوصية ، فلقد تم طرح مجموعة مترابطة من الأسئلة في استبيان علمي في مدينة الرياض . وبناءً على ذلك ، فقد تم سؤال عينة البحث عما إذا كانت خصوصياتهم ، في أفنية منازلهم ، محمية من الجيران القريبين أم لا ؟ وقد أفاد ( 74.4% ) من عينة البحث بأنهم يفتقدون الخصوصية في أفنية منازلهم وأنهم يضطرون إلى بناء حواجز عالية على الأسوار بينهم وبين جيرانهم من أجل الحفاظ على خصوصيتهم . وبالإضافة إلى ذلك ، فإن بعض الساكنين يسدون أو يسترون نوافذ منازلهم المطلة على الجيران ، من أجل الحصول على هذه الخصوصية .
وعلى كل حال ، فإن الكثير من قاطني الفلل السكنية كانوا مهتمين بمبدأ الخصوصية في أفنية منازلهم . في حين اهتم ساكنو الشقق بوجود النوافذ ، نظراً لخلو شققهم من الأفنية .
وفي سؤال آخر عن الخصوصية داخل المنزل نفسه ، أبدى ( 35.3% ) من العينة ارتياحهم لتوفير عناصر الخصوصية ، بينما أبدى ( 31.5% ) عن شبه ارتياح الخصوصية الداخلية في منازلهم ، في حين بلغت نسبة الأشخاص غير الراضين عن عناصر الخصوصية في بيوتهم ( 21.4 % ) . ونستنتج مما تقدم ، أن المشكلة الرئيسية تكمن في عدم وجود الخصوصية في الأفنية المحيطة بالمنازل ، وليس في فقدان الخصوصية داخل المنزل نفسه . فالتصميم الداخلي للمنزل عادة ما يفي بعناصر الخصوصية المطلوبة للعائلة العربية المسلمة .
بالإضافة إلى هذا ، فقد أجابت عينة البحث عن سؤالين مترابطين حول التباينات والمفارقات الموجودة في البيئة العمرانية . وقد دار السؤال ، الأول حول مدى تقبل عينة البحث للأنظمة العمرانية والمعمارية المتبعة ، على اختلافها المتنوع . فأوضح ( 55% ) من أفراد العينة أنهم غير راضين عن هذه الأنظمة والقوانين . بينما أبدى ( 34.7% ) من مجموع العينة ارتياحهم لهذه القوانين والأنظمة المعمارية والعمرانية . وعندما قسّمت العينة على حسب التخصص ، عبر أغلب المتخصصين ، من معماريين ومخططي مدن ، عن عدم ارتياحهم لهذه الأنظمة .
أما السؤال الثاني فهو ، حول التباين بين هذه الأنظمة العمرانية والمعمارية وبين الأنظمة والأطر الحضارية والاجتماعية السائدة في المجتمع . وقد أبدى ( 59.5 % ) من أفراد عينة البحث عن وجود هذا التباين . وتدل هذه الدراسة على وجود فجوة تفصل ما بين الأنظمة العمرانية والمعمارية المطبقة والرؤية الحضارية والاجتماعية السائدة . والنتيجة المباشرة هو بروز نوع من التباين وعدم التلاؤم بين المطلبين ، التخطيطي والاجتماعي ، وهذه التباينات والمفارقات الاجتماعية والحضارية في البيئة العمرانية كانت سبباً ، من بين أسباب وعوامل أخرى ، في إضعاف العلاقات والتواصل الاجتماعي بين الجيران في الحي السكني الواحد .
نظرة مقارنة لدراسات أخرى :
في دراسة مقارنة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ، ما بين بيئة عمرانية تقليدية ومستحدثة ( نظام الفيلا والتخطيط الشبكي للشوارع ) ، كان هناك اختلافاً ملحوظاً في التواصل الاجتماعي ما بين الجيران . ( 80% ) من قاطني البيئة التقليدية كانوا يلتقون بجيرانهم بشكل يومي ، بينما ( 10 % ) فقط من سكان المخططات العمرانية المستحدثة يفعلون ذلك . ولاختبار سلوك اجتماعي وانتمائي آخر ما بين البيئتين العمرانيتين ، فقد طرح سؤال على مدى تعاون السكان فيما بينهم . وأجاب (90%) من سكان البيئة التقليدية بأنهم يتعاونون فيما بينهم ، بينما ( 40 % ) من قاطني البيئة العمرانية السكنية ذكروا بأنهم يتعاونون مع جيرانهم . بالإضافة إلى هذا ، تم إجراء تقويم لدرجة الرضى على التواصل والعلاقات الاجتماعية ما بين البيئتين العمرانيتين . وأظهرت النتائج على أن سكان البيئة العمرانية التقليدية كانوا أكثر رضاً وارتياحاً مع جيرانهم وأقرباؤهم في الأحياء العمرانية التقليدية مما هي عليه في البيئة العمرانية السكنية المستحدثة ، والذين كانوا غير راضين على تلك العلاقات الاجتماعية والانتمائية .
وفي دراسة أخرى في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية ، وجدت الباحثة أن العلاقات والسلوك الاجتماعي الانتمائي في أحياء مدينة مكة المكرمة التقليدية كانت قوية نسبياً . وأكدت على أن ذلك التواصل الاجتماعي مهم وجيد ويجب أن يكون مثلاً يحتذى من قبل المدن العربية والإسلامية الأخرى . وتوصلت تلك الدراسة على أن ( 61% ) من عينـــة البحث لديهم أقارب يقطنون في ذات الحي الســــــكني . وبأن ( 91.5% ) من المشاركين متحمسين جداً للتواصل الاجتماعي وبأنهم يزورون جيرانهم بشكل اعتيادي . بالإضافة إلى ذلك ، وهذه نقطة هامة ، فإن ( 76.3 % ) من عينة البحث لا يرغبون في تغيير أماكن سكناهم إلى الأحياء المستحدثة والتي تنعم بالخدمات المتميزة عن أحيائهم العمرانية التقليدية . ويرجع السبب في هذا ، إلى أن هؤلاء السكان يرتبطون بأقاربهم وجيرانهم وينتمون إلى أحيائهم السكنية ويودون المحافظة على ما هم عليه . ويجب الإشارة هنا إلى أن هذه الدراسة كانت مهتمة بأحياء مكة المكرمة التقليدية نسبياً ، وأن الأحياء المستحدثة في مكة المكرمة كغيرها من مدن البلاد ، تفتقد إلى المحيط الاجتماعي والحضاري الذي يمدها بالتواصل والرضى الاجتماعي والتعاون فيما بين قاطنيها ، على الرغم من توفر الخدمات الجيدة فيها .
إن العوامل العرقية والإقليمية في المحيط الحضاري العربي الإسلامي كان لها دوراً كبيراً في توفير جو مريح من التعاون والتواصل الاجتماعي الجيد . هذا المحيط الاجتماعي والحضاري تم تقويته بتعاليم الإسلام الحنيف منذ بدايات البيئة العمرانية التقليدية في المدينة المنورة خلال القرن السابع الميلادي .
Admin
Admin
المدير
المدير

عدد المساهمات : 972
نقاط : 2426
تاريخ التسجيل : 09/11/2011

https://chemamin.forumalgerie.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى