العولمة والعمران
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
العولمة والعمران
العولمة والعمران
د, علي الدين هلال
الباحثون في الامور المتعلقة بالعولمة يكتشفون ابعادا جديدة لتلك العملية التاريخية التي تؤثر على كل جوانب الحياة والمجتمع, فإلى جانب الابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي تكرر الحديث فيها، فإن هناك مجالات اخرى مثل الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني والعمران تأثرت بالتأثيرات والتداعيات التي تطرحها العولمة.
ومناسبة هذا الحديث مشاركتي في مناقشة علمية بكلية الهندسة بجامعة القاهرة عن تأثير العولمة على العمران, ويقصد بالعمران، في هذا المجال، نمط التوزيع السكاني على المكان وعلاقة العاصمة او المدينة الكبيرة في دولة ما بالمدن الاصغر، وهل تتسم تلك العلاقة بسمة (السيطرة العمرانية) ام توجد علاقة تكافؤ بينها, بعبارة اخرى فان مجال العمران يتجاوز التخصص الهندسي بمعناه المحدد، ويتناول علاقة الانسان بالمكان وتوزيع الاستثمارات والخدمات، والسكان بين مدن واقاليم الدولة.
وعندما نتأمل في تأثير العولمة على علاقة الانسان بالمكان فإنه يأتي الى الذهن، على الفور، نتائج ثورة الاتصالات والمعلومات وخصوصا شبكة المعلومات العالمية (الانترنت), والتي اسقطت من الناحية العملية حاجز المكان, فمع التدفق السريع للمعلومات من مكان لاخر، وعبر الحدود السياسية والقارات المتباعدة، لم يعد للمسافة الجغرافية او حاجز المكان دلالته السابقة.
وفي كل المجالات نجد تجليات لذلك التطور، ففي مجال البحث العلمي مثلا يستطيع المهتمون والمتخصصون في موضوع معين ان يتبادلوا الرأي، وان يدخلوا في نقاشات علمية من خلال اجهزة الحاسب الآلي ويستطيع المواطن ان يقوم باعمال الشراء والبيع، وان يتجول في كبريات المتاجر العالمية وهو في منزله، كما ان عددا متزايدا من العاملين في الدول الصناعية المتقدمة، وخصوصا في مجال المعلومات، يستطيعون ان يؤدوا اعمالهم دون ان يغادروا منازلهم.
وبفعل التطور العلمي والتكنولوجي، والبث عن بعد يستطيع الاطباء في مستشفى في عاصمة عربية ان يقوموا باجراء عملية جراحية دقيقة يتم مراقبتها وملاحظتها ومتابعتها بواسطة اطباء في لندن او كليفلاند كما ان الطالب الجامعي يستطيع ان يتواصل مع اساتذته ويدخل معهم في حوار بدون اتصال مواجهي مباشر اضف الى ذلك الامكانيات التي وفرتها التكنولوجيا بشأن (النقل اللحظي) للاحداث الهامة, فمئات الملايين من البشر, في اكثر من مائة دولة، تابعوا في صيف العام الماضي مباريات كرة القدم على كأس العالم في باريس.
وفي مجال الاقتصاد حدث تطور مماثل في اتساع الهوة بين الاقتصاد العيني ويقصد به الاصول الرأسمالية الثابتة وعملية الانتاج المرتبطة بها) والاقتصاد الرمزي (ويقصد به تداول الاسهم والسندات والاوراق المالية) فإن الصلة بين الانسان والمكان قد تغيرت ايضا فالى حين عهد قريب، فإن ملكية الانسان تمثلت في اصول مادية مباشرة اما الآن، فإن اسواق المال، وملكية السهم والسندات اصبحت هي الصورة الاكثر شيوعا في الدول الرأسمالية المتقدمة, ووفقا لهذا النمط من الملكية، فإن ملكية الانسان تتمثل في مجموعة من الاوراق والصكوك ذات القيمة المالية، والتي يستطيع المرء ان يبيعها في اي وقت ويترتب على ذلك ان تتحول ملكية الاصول العينية من يد لاخرى، ومن مالك لاخر، ومن جنسية لاخرى بشكل دوري, وهكذا فإن ازدياد دور البورصات واسواق المال اسهمت ايضا في اضعاف العلاقة بين الانسان والمكان.
ولكن ما تقدم يمثل نصف الصورة ونصف الحقيقة فقط وهو يشير الى ما يحدث في الدول الصناعية المتقدمة والى قطاع من عواصم الدول النامية وهو بالتأكيد لم يشمل بعد اغلبية سكان العالم فما زالت اعداد الحاسبات الآلية في اغلب دول الجنوب محدودة، ومازال استخدامها قاصرا على نخبة قليلة العدد ومازال تدفق المعلومات يسير في اتجاه واحد والهوة بين الشمال والجنوب تتسع ولا تضيق.
وتشير كل تقارير التنمية البشرية التي يصدرها البرنامج الانمائي للامم المتحدة الى هذه الحقيقة وان العالم اليوم اقل عدلا من حيث توزيع الخدمات والفرص عما كان عليه من ربع قرن وان 20% من دول العالم تستحوذ على قرابة 85% من الناتج العالمي الاجمالي وعلى حوالي 80% من التجارة العالمية، وان سكانها يملكون 85% من المدخرات العالمية، وان نصيب اغنى خمسة من عدد سكان العالم يصل الى 80% من ثروة العالم واستهلاكه.
فهل تقود العولمة، بالضرورة الى تعميق التفاوتات الاجتماعية بين الاغنياء والفقراء سواء على مستوى العالم او على مستوى كل مجتمع، وهل يكون من شأنها تكريس التفاوت في توزيع مصادر القوة النسبية بين الطبقات والفئات المختلفة؟ وهل سيظل ذلك سمة ملازمة للعولمة، ام انها ربما نتيجة لمرحلة بدايتها وانه سوف تنشأ قوى وآليات تصحيحية بداخلها في مراحل نضجها.
هناك من يرى ان العولمة هي التعبير المعاصر عن النظام الرأسمالي، وانها باطلاقها قوى السوق والعرض والطلب وتأكيدها على المنافسة وحرية التجارة وتدفق السلع والخدمات، فإنه تعطى ميزة، من اول لحظة للاقوياء وللدول الصناعية المتقدمة، وان استمرارها يؤدي الى تعميق تلك التفاوتات.
من ناحية ثانية يرى اخرون ان استمرار ذلك يؤدي الى خلق مسببات التوتر الاجتماعي على المستوى الداخلي، والى تهديد الاستقرار والامن على المستوى الدولي, وان القوى الداعية للعولمة سوف تجد ان من مصلحتها احداث نوع من التوازن الاجتماعي والتكافل الانساني اللازم والضروري لحدوث الاستقرار والامن، داخليا وخارجيا.
وان تزايد وزن الافكار المتعلقة بمفهوم (الطريق الثالث) في تلك الدول الصناعية المتقدمة هو تعبير عن هذا الادراك وان جوهر ما يدافع عنه انصار الطريق الثالث هو (رأسمالية بوجه انساني).
ويستمر الجدل حول قضايا لايستطيع احد الزعم بأنه يمتلك الحقيقة بشأنها، لانها قضايا متطورة ومتغيرة، وعلينا ان نستمر في إعمال العقل والخيال بشأنها.
د, علي الدين هلال
الباحثون في الامور المتعلقة بالعولمة يكتشفون ابعادا جديدة لتلك العملية التاريخية التي تؤثر على كل جوانب الحياة والمجتمع, فإلى جانب الابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي تكرر الحديث فيها، فإن هناك مجالات اخرى مثل الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني والعمران تأثرت بالتأثيرات والتداعيات التي تطرحها العولمة.
ومناسبة هذا الحديث مشاركتي في مناقشة علمية بكلية الهندسة بجامعة القاهرة عن تأثير العولمة على العمران, ويقصد بالعمران، في هذا المجال، نمط التوزيع السكاني على المكان وعلاقة العاصمة او المدينة الكبيرة في دولة ما بالمدن الاصغر، وهل تتسم تلك العلاقة بسمة (السيطرة العمرانية) ام توجد علاقة تكافؤ بينها, بعبارة اخرى فان مجال العمران يتجاوز التخصص الهندسي بمعناه المحدد، ويتناول علاقة الانسان بالمكان وتوزيع الاستثمارات والخدمات، والسكان بين مدن واقاليم الدولة.
وعندما نتأمل في تأثير العولمة على علاقة الانسان بالمكان فإنه يأتي الى الذهن، على الفور، نتائج ثورة الاتصالات والمعلومات وخصوصا شبكة المعلومات العالمية (الانترنت), والتي اسقطت من الناحية العملية حاجز المكان, فمع التدفق السريع للمعلومات من مكان لاخر، وعبر الحدود السياسية والقارات المتباعدة، لم يعد للمسافة الجغرافية او حاجز المكان دلالته السابقة.
وفي كل المجالات نجد تجليات لذلك التطور، ففي مجال البحث العلمي مثلا يستطيع المهتمون والمتخصصون في موضوع معين ان يتبادلوا الرأي، وان يدخلوا في نقاشات علمية من خلال اجهزة الحاسب الآلي ويستطيع المواطن ان يقوم باعمال الشراء والبيع، وان يتجول في كبريات المتاجر العالمية وهو في منزله، كما ان عددا متزايدا من العاملين في الدول الصناعية المتقدمة، وخصوصا في مجال المعلومات، يستطيعون ان يؤدوا اعمالهم دون ان يغادروا منازلهم.
وبفعل التطور العلمي والتكنولوجي، والبث عن بعد يستطيع الاطباء في مستشفى في عاصمة عربية ان يقوموا باجراء عملية جراحية دقيقة يتم مراقبتها وملاحظتها ومتابعتها بواسطة اطباء في لندن او كليفلاند كما ان الطالب الجامعي يستطيع ان يتواصل مع اساتذته ويدخل معهم في حوار بدون اتصال مواجهي مباشر اضف الى ذلك الامكانيات التي وفرتها التكنولوجيا بشأن (النقل اللحظي) للاحداث الهامة, فمئات الملايين من البشر, في اكثر من مائة دولة، تابعوا في صيف العام الماضي مباريات كرة القدم على كأس العالم في باريس.
وفي مجال الاقتصاد حدث تطور مماثل في اتساع الهوة بين الاقتصاد العيني ويقصد به الاصول الرأسمالية الثابتة وعملية الانتاج المرتبطة بها) والاقتصاد الرمزي (ويقصد به تداول الاسهم والسندات والاوراق المالية) فإن الصلة بين الانسان والمكان قد تغيرت ايضا فالى حين عهد قريب، فإن ملكية الانسان تمثلت في اصول مادية مباشرة اما الآن، فإن اسواق المال، وملكية السهم والسندات اصبحت هي الصورة الاكثر شيوعا في الدول الرأسمالية المتقدمة, ووفقا لهذا النمط من الملكية، فإن ملكية الانسان تتمثل في مجموعة من الاوراق والصكوك ذات القيمة المالية، والتي يستطيع المرء ان يبيعها في اي وقت ويترتب على ذلك ان تتحول ملكية الاصول العينية من يد لاخرى، ومن مالك لاخر، ومن جنسية لاخرى بشكل دوري, وهكذا فإن ازدياد دور البورصات واسواق المال اسهمت ايضا في اضعاف العلاقة بين الانسان والمكان.
ولكن ما تقدم يمثل نصف الصورة ونصف الحقيقة فقط وهو يشير الى ما يحدث في الدول الصناعية المتقدمة والى قطاع من عواصم الدول النامية وهو بالتأكيد لم يشمل بعد اغلبية سكان العالم فما زالت اعداد الحاسبات الآلية في اغلب دول الجنوب محدودة، ومازال استخدامها قاصرا على نخبة قليلة العدد ومازال تدفق المعلومات يسير في اتجاه واحد والهوة بين الشمال والجنوب تتسع ولا تضيق.
وتشير كل تقارير التنمية البشرية التي يصدرها البرنامج الانمائي للامم المتحدة الى هذه الحقيقة وان العالم اليوم اقل عدلا من حيث توزيع الخدمات والفرص عما كان عليه من ربع قرن وان 20% من دول العالم تستحوذ على قرابة 85% من الناتج العالمي الاجمالي وعلى حوالي 80% من التجارة العالمية، وان سكانها يملكون 85% من المدخرات العالمية، وان نصيب اغنى خمسة من عدد سكان العالم يصل الى 80% من ثروة العالم واستهلاكه.
فهل تقود العولمة، بالضرورة الى تعميق التفاوتات الاجتماعية بين الاغنياء والفقراء سواء على مستوى العالم او على مستوى كل مجتمع، وهل يكون من شأنها تكريس التفاوت في توزيع مصادر القوة النسبية بين الطبقات والفئات المختلفة؟ وهل سيظل ذلك سمة ملازمة للعولمة، ام انها ربما نتيجة لمرحلة بدايتها وانه سوف تنشأ قوى وآليات تصحيحية بداخلها في مراحل نضجها.
هناك من يرى ان العولمة هي التعبير المعاصر عن النظام الرأسمالي، وانها باطلاقها قوى السوق والعرض والطلب وتأكيدها على المنافسة وحرية التجارة وتدفق السلع والخدمات، فإنه تعطى ميزة، من اول لحظة للاقوياء وللدول الصناعية المتقدمة، وان استمرارها يؤدي الى تعميق تلك التفاوتات.
من ناحية ثانية يرى اخرون ان استمرار ذلك يؤدي الى خلق مسببات التوتر الاجتماعي على المستوى الداخلي، والى تهديد الاستقرار والامن على المستوى الدولي, وان القوى الداعية للعولمة سوف تجد ان من مصلحتها احداث نوع من التوازن الاجتماعي والتكافل الانساني اللازم والضروري لحدوث الاستقرار والامن، داخليا وخارجيا.
وان تزايد وزن الافكار المتعلقة بمفهوم (الطريق الثالث) في تلك الدول الصناعية المتقدمة هو تعبير عن هذا الادراك وان جوهر ما يدافع عنه انصار الطريق الثالث هو (رأسمالية بوجه انساني).
ويستمر الجدل حول قضايا لايستطيع احد الزعم بأنه يمتلك الحقيقة بشأنها، لانها قضايا متطورة ومتغيرة، وعلينا ان نستمر في إعمال العقل والخيال بشأنها.
اكرام ملاك- عضو فعال
- عدد المساهمات : 334
نقاط : 700
تاريخ التسجيل : 24/12/2011
رد: العولمة والعمران
يارك الله فيكما
اكرام ملاك- عضو فعال
- عدد المساهمات : 334
نقاط : 700
تاريخ التسجيل : 24/12/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى